كيف يُحقّق لبنان مطالبه في وجه "إسرائيل"… وما الثمن المحتمل؟
لم تعد إجتماعات لجنة "الميكانيزم" مجرّد لقاءات تقنية لضبط الحدود الجنوبية، بل تحوّلت أخيراً إلى المساحة السياسية – الأمنية الأكثر حساسية، في مسار الصراع غير المباشر بين لبنان و"إسرائيل". ومع انتقال رئاسة الوفد اللبناني إلى الديبلوماسي المدني السفير سيمون كرم، تحاول الدولة اللبنانية إعادة الإمساك بدفّة التفاوض، ليس من موقع ردّ الفعل، بل من موقع صياغة شروط واضحة لما تريده وما ترفضه.
وفي خضم هذه الإجتماعات، يُعيد لبنان طرح ملف الحدود ومسارات إنهاء الاحتلال، والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالجنوبيين خلال الحرب التي اندلعت بين حزب الله و"إسرائيل"، لتكون هذه اللجنة المحكّ الفعلي لطموحات سيادية وأمنية واقتصادية لبيروت.
وتتمحور المطالب اللبنانية حول أربعة محاور رئيسية هي: الانسحاب "الإسرائيلي" من التلال الحدودية، عودة الأهالي إلى القرى المدمّرة، إعادة إعمار الجنوب، واستعادة الأسرى، مع إبقاء ملف مزارع شبعا بنداً مؤجلاً إلى "المرحلة الأخيرة"، على ما قال رئيس الجمهورية جوزاف عون، لا ملغى. لكن التحدي الحقيقي، كما تقرأه العواصم الغربية، لا يكمن في مشروعية هذه المطالب، بل في كيفية تحويلها إلى وقائع، من دون دفع أثمان سيادية طويلة الأمد.
المقاربة اللبنانية داخل لجنة "الميكانيزم"، على ما تؤكّد مصادر سياسية مطلعة، تقوم على مبدأ التدرّج، فبدلاً من تسوية شاملة دفعة واحدة، يركّز الوفد اللبناني على تحقيق إختراقات مرحلية قابلة للقياس، تبدأ بالملفات الإنسانية والأمنية الأقل تعقيداً، على قاعدة "الخطوة مقابل خطوة"، تمهيداً لمعالجة القضايا الأوسع.
في هذا السياق، يُبدي لبنان استعداداً لهوامش تفاوض محدودة، أبرزها تعزيز انتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني، وتحمّل مسؤوليات أمنية مباشرة في القرى التي يُفترض أن تنسحب منها "القوات الإسرائيلية". ويُقدَّم هذا الانتشار بوصفه ترجمة لالتزامات لبنان الدولية وبسط سيادة الدولة، لا كتنازل سياسي.
كذلك، لا يمانع لبنان، وفق ما تنقل المصادر، تشديد آليات الرقابة الدولية، سواء عبر تقارير تقنية دورية أو وسائل مراقبة غير قتالية، شرط أن تبقى هذه الآليات ضمن تفويض "اليونيفيل" القائم، وألا تتحوّل إلى وصاية دائمة أو بديلة عن الدولة. لهذا، يلتزم لبنان سياسياً بعدم استخدام الجنوب كمنصة لأي تصعيد، ويفصل هذا المسار عن الحسابات الإقليمية الأوسع، لكنه يربط أي تهدئة دائمة بانسحاب واضح ومُجدول، لا بتعهّدات مفتوحة زمنياً.
وتشير المصادر إلى أنّ عودة السكان إلى القرى الحدودية، تشكّل في المقاربة اللبنانية، خط الإختبار الأول للمصداقية الدولية. فبيروت ترفض بشكل قاطع أي طرح يُبقي القرى خالية من أهاليها تحت حجج أمنية، أو يُعيد إنتاج مفهوم "المنطقة العازلة" (أو المنطقة الإقتصادية أو السياحية)، بصيغة غير معلنة. كما أنّ عودة المدنيين، من وجهة النظر اللبنانية، هي حقّ إنساني لا يجوز ربطه بتفاهمات سياسية أو أمنية مؤجّلة.
الأمر نفسه ينطبق على إعادة إعمار الجنوب. فلبنان، على ما توضح المصادر، يقبل بإدارة العملية عبر مؤسسات الدولة، وبإشراف مالي وتقني دولي يُطمئن الجهات المانحة، لكنه يرفض أن تتحوّل أموال الإعمار إلى أداة ابتزاز، أو أن تُربط بتغييرات في التوازنات السياسية الداخلية.
وفي ما يتعلّق بملف الأسرى والمحتجزين لدى "إسرائيل"، يعتمد لبنان مقاربة قانونية – إنسانية، مدركاً في الوقت نفسه أنّ "إسرئيل" تميل إلى إدراج هذا البند ضمن "سلّة تفاهمات" أوسع. لذلك، يصرّ الوفد اللبناني على إبقاء الملف حاضراً في كل جولة تفاوض، ولو من دون اختراق فوري.
أما مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم الشمالي من بلدة الغجر، فرغم إدراك لبنان لتعقيداتها الإقليمية، يرفض إخراجها من إطار النزاع. والقبول بترحيل البحث فيها زمنياً، لا يعني في المنطق اللبناني، التنازل عنها أو إسقاطها من أي تسوية نهائية.
وفق هذا السيناريو، يسعى لبنان، على ما تلفت المصادر المطلعة، إلى تحقيق عودة تدريجية للأهالي، إطلاق إعادة إعمار مشروطة بتمويل دولي يُدار عبر الدولة، تبادل محدود للأسرى، وتثبيت دور الجيش جنوب الليطاني بدعم غربي. في المقابل، يقبل بآليات رقابة دولية أكثر تشدداً (مسيّرات، كاميرات، تقارير دورية)، والتزام سياسي بعدم فتح الجبهة الجنوبية، وتجميد أي نشاط عسكري غير رسمي من دون إعلان نزع سلاح شامل، الى جانب عدم حلّ ملف مزارع شبعا فوراً، بل ترحيله إلى مرحلة لاحقة ضمن تفاوض أوسع مرتبط بالحدود البرية.
وفي مقابل هذه المرونة، يضع لبنان خطوطاً حمراء واضحة: لا منطقة عازلة داخل الأراضي اللبنانية، لا تطبيع سياسي تحت غطاء تقني، لا قوات أجنبية خارج "اليونيفيل"، ولا ربط بين الحقوق الإنسانية والسيادة والتسويات الإقليمية.
وتحاول "إسرائيل" في الوقت نفسه – بدعم من بعض المقاربات الغربية – انتزاع ضمانات أمنية طويلة الأمد قبل أي إنسحاب فعلي. وهنا يبرز جوهر الاشتباك التفاوضي: لبنان يقبل بضمان الاستقرار، لكنه يرفض أن يتحوّل هذا الاستقرار إلى "أمن إسرائيلي" آحادي الجانب يُفرض داخل الأراضي اللبنانية، سيما وأنّ اعتداءاته على لبنان لا تزال مستمرة، رغم التزام لبنان باتفاق وقف الأعمال العدائية منذ دخوله حيّز التنفيذ في 27 تشرين الثاني من العام الماضي، في الوقت الذي خرقته "إسرائيل" منذ اللحظات الاولى، مسجّلة آلاف الإعتداءات وتستمرّ في ذلك حتى الساعة.
من هنا، يحاول لبنان، على ما تُعقّب المصادر نفسها، إيصال رسالة واضحة للمجتمع الدولي: "نحن مستعدون لضمان الإستقرار في جنوب لبنان، من دون التفريط بالسيادة". فـ"الميكانيزم" ليس ساحة تنازل، بل اختبار لقدرة الدولة اللبنانية على إدارة صراعها بأدوات القانون الدولي، من دون الوقوع في فخّ "الأمن مقابل الأرض"، ومنع تحوّل الترتيبات المرحلية إلى أمر واقع دائم، وتثبيت معادلة واحدة هي أنّ "ما يُقدَّم هو ضمانات، وما يُنتزع هو حقوق".
دوللي بشعلاني - الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|