خمس سنوات من القهر: ماذا فعل "قيصر" بالسوريين؟
بعد أكثر من خمس سنوات ونيّف على دخول قانون «قيصر» حيّز التنفيذ، تتكشّف تباعاً آثار واحدة من أكثر منظومات العقوبات شمولاً وتعقيداً في التاريخ الحديث. فالقانون الذي وُضع أصلاً لمعاقبة النظام السابق، تحوّل مع الوقت إلى شبكة خانقة تمسّ كلّ تفاصيل الحياة اليومية لملايين السوريين، وتُنتج اقتصاداً موازياً يقوم على الندرة والمضاربة والتهريب. وإذا كانت جهود إلغاء القانون قد تكلّلت أخيراً بالنجاح، بما يتيح لسوريا فرصة أولية للتعافي، فإنّ أحداً ممّن عملوا سابقاً على فرضه أو دعموا تطبيقه، أو ممّن يعارضون اليوم إلغاءه أو حتى تعليقه، لا يبدو مستعدّاً لمواجهة الحصيلة الفعلية لما خلّفته هذه العقوبات من فقر وجوع وتآكل ممنهج للقدرات الاقتصادية والاجتماعية.
وبخلاف الانطباع الذي تروّجه بعض الدوائر السياسية والإعلامية، لم يكن «قيصر» قانوناً رمزياً أو محدود الأثر، إنما شكّل فعلياً الإطار القانوني لتوسيع العقوبات الأميركية لتشمل أي جهة أو كيان يتعامل اقتصادياً مع الدولة السورية أو مؤسساتها الرسمية. وبهذا المعنى، امتدّ تأثيره إلى دول الجوار والمصارف وشركات النقل والتأمين، وحتى المنظمات الإنسانية التي كانت تسعى إلى إيصال المساعدات، لتحوّل هذه الطبيعة الشاملة، العقوبات، من أداة ضغط سياسي إلى منظومة تعطّل سلاسل التوريد، وتعيد تشكيل الاقتصاد على قاعدة «البقاء للأقوى»، أو للأقرب من مراكز النفوذ المالي.
اللافت في هذا الملف غياب أي جهود محلّية أو دولية منهجية لتوثيق حجم الخسائر الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن العقوبات التي فُرضت على سوريا، سواء قبل صدور «قيصر» أو بعده. وما هو متاح، في هذا السياق، لا يتعدّى ما نشره «المركز السوري لبحوث السياسات» عام 2013، والذي قدّر فيه أنّ العقوبات تسبّبت، حتى نهاية عام 2012، بخسائر تعادل نحو 27% (أي حوالى 6.8 مليارات دولار) من إجمالي الخسائر التي تكبّدها الاقتصاد السوري آنذاك، إضافة إلى زيادة عدد الفقراء بنحو 877 ألف شخص. فكيف تبدو الصورة بعد 14 عاماً على الأزمة، وأكثر من خمس سنوات على تطبيق قانون «قيصر»؟
مليون أسرة تحت «الضرب»
صحيح أنّ «قيصر» لم يكن العامل الوحيد وراء الانهيار الاقتصادي الذي دخلت البلاد في «مطحنته» في أثناء السنوات الأخيرة؛ إذ أدّت عوامل داخلية وإقليمية أخرى دوراً في ذلك، إلا أنّ القانون شكّل العامل الأكثر تأثيراً. ويكفي للاستدلال على ما تقدّم، أنّ المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية قبل عام 2020 كانت تسير ضمن منحى «مضبوط» نسبياً، سواء لجهة معدّلات الفقر أو الأمن الغذائي أو سعر الصرف أو التضخّم، وغيرها، قبل أن تسجّل جميعها، بعد ذلك التاريخ، انهيارات غير مسبوقة.
وإذ يمثّل الوضع المعيشي للناس المؤشر الأهمّ لقياس تأثير العقوبات الخارجية، ولا سيّما في ظلّ ادّعاء مهندسي هذه الأخيرة أنها لا تستهدف معيشة الأفراد وإنما تقويض الأنظمة السياسية، أو الضغط عليها، فإنه منذ أن بدأت الإدارة الأميركية بتشديد حصارها على سوريا عبر عرقلة تواصلها التجاري مع دول الجوار - حتى قبل دخول «قيصر» حيّز التنفيذ -أخذ سعر صرف الليرة في التهاوي بنسب كبيرة ومتلاحقة زمنياً. وتسبّب هذا الأمر بارتفاعات حادّة في معدّلات التضخّم، من نحو 13.4% عام 2019 إلى 118.8% عام 2021، قبل أن يتراجع قليلاً إلى نحو 73% عام 2023.
وهكذا، كانت النتيجة، في ظلّ تدنّي الدخول وانخفاض القوة الشرائية، زيادة هائلة في معدّلات الفقر بدرجاته الثلاث، وفي انعدام الأمن الغذائي للأفراد والأسر على حدّ سواء، علماً أنّ أسراً كثيرة اضطرّت - تحت ضغط الحاجة والحرمان- إلى الاقتصاد في طعامها أو التحايل على أطفالها للنوم وهم جوعى، وهذه حوادث موثّقة بالنسب والأرقام. إلا أنّ إعادة قراءة البيانات والأرقام الإحصائية الصادرة عن مؤسسات رسمية وأممية، والحصول بالتالي على بعض الاستنتاجات، يمكنه أن يوضح ماذا فعل «قيصر» بالسوريين.
وفقاً لـ«مسح الأمن الغذائي» الذي تجريه دورياً «هيئة التخطيط» و«المكتب المركزي للإحصاء» بالتعاون مع «برنامج الغذاء العالمي»، تراجعت نسبة الأسر الآمنة غذائياً من 35.8% عام 2019 إلى 9.4% عام 2023، أي إنّ نحو مليون أسرة فقدت أمنها الغذائي بعد تطبيق «قيصر». وبذلك، كانت أكثر من 3.6 ملايين أسرة، بنهاية عام 2023، إمّا معرّضة لانعدام الأمن الغذائي أو تعاني حرماناً غذائياً متوسّطاً أو شديداً.
وتتقاطع هذه النتائج مع تقديرات الأمم المتحدة، التي تشير إلى ارتفاع عدد السوريين المحتاجين إلى المساعدة من نحو 11.7 مليون شخص عام 2019، إلى حوالى 16.7 مليوناً في عام 2024، أي بزيادة تقارب 5 ملايين شخص في أثناء خمس سنوات فقط من تطبيق «قيصر»، وبمعدّل مليون شخص كل سنة.
هذه المؤشرات انعكست نتائجها سريعاً على فئات مختلفة من السوريين، وفي مقدّمها الأطفال. إذ تظهر النتائج الأولية للمسوحات الصحية الوطنية أنّ نسبة سوء التغذية الحادّ بين الأطفال، ارتفعت من 1.7% عام 2019 إلى 4.8% عام 2023. كما يعاني كل طفل من أربعة أطفال دون سنّ الخامسة من التقزّم، بما يحمله ذلك من آثار سلبية على نموّ هؤلاء العقلي، بالإضافة إلى معاناة كل سيدة من ثلاث هنّ في سنّ الإنجاب من فقر الدم. وفي الوقت نفسه، ارتفعت نسبة الأطفال المنخرطين في سوق العمل (بين 5 و17 عاماً) من 6.4% عام 2020 إلى 8.2% عام 2023، ما يعني دخول ما لا يقلّ عن 80 ألف طفل إضافي إلى سوق العمل في أثناء المدّة المشار إليها.
وأمام هذا الواقع، وجدت غالبية الأسر نفسها مجبرةً على اتّباع سياسات تأقلم قاسية، أو ما يُعرف شعبياً بـ«شدّ الأحزمة»، وذلك عبر اللجوء إلى أنواع غذاء أقلّ جودة أو أقلّ كلفة، أو تخفيض الكميات والوجبات، أو الاقتراض، أو إنتاج الغذاء ذاتياً، أو تفضيل الأطفال على حساب البالغين، أو حتى التسوّل. وفي الحالات الأشدّ، جرى استنزاف أصول الأسر لتأمين الطعام، وفق ما يؤكّده القائمون على مسح الأمن الغذائي الأخير.
تعطيل القدرات الاقتصادية
على المستوى الكلّي، حدّ «قيصر» بشكل كبير من قدرات الاقتصاد السوري، والذي شهد ناتجه الإجمالي تراجعاً من نحو 22.6 مليار دولار عام 2019 إلى حوالى 21.4 مليار دولار عام 2024، وفق تقديرات البنك الدولي في تقريره الأخير. غير أنّ الخسارة الأهم لا تكمن في هذا التراجع الظاهر فحسب، إنما في ما يُعرف «الخسارة الكامنة» للنمو، أي ما كان يمكن تحقيقه لولا العقوبات.
وتظهر مقارنة بيانات وزارة الكهرباء، على سبيل المثال، وجود خسارة إنتاجية تبلغ 5.9 مليارات كيلوواط ساعي سنوياً بين عامي 2019 و2022. وباحتساب خسارة دولار واحد لكل كيلوواط غير مُنتَج، فإنّ سوريا خسرت في عام 2022 وحده نحو خمسة مليارات دولار نتيجة تراجع إنتاجها من الطاقة الكهربائية.
أمّا التجارة الخارجية، فكانت من أوائل القطاعات المتضرّرة؛ إذ تشير التقديرات الرسمية في أثناء مدّة ما قبل عام 2024، إلى أنّ كلفة المستوردات ارتفعت بنسبة تراوح بين 25% و40% جرّاء زيادة بدلات التأمين والنقل والمخاطر وكلفة التحايل على العقوبات والاحتكار. ومع بلوغ قيمة المستوردات نحو أربعة مليارات دولار في العامين الأخيرين، يمكن القول إنّ سوريا كانت تدفع سنوياً مئات ملايين الدولارات ككلفة إضافية على مستورداتها.
وتأكيداً لما تقدّم، يُظهر مسح الأمن الغذائي غير المنشور ارتفاع سعر طن المستوردات الغذائية من 606 يورو عام 2021، إلى 719 يورو عام 2023، بعد أن بلغ 776 يورو عام 2022. وفي الوقت نفسه، انخفض سعر طن الصادرات الغذائية من 421 يورو عام 2021 إلى 371 يورو عام 2023، بعد أن بلغ 386 يورو عام 2022. وهذا التراجع، سواء أكان في نسبة التغطية أو في شروط التجارة الخارجية من السلع الغذائية، ترك أثره السلبي على الأمن الغذائي للأسرة السورية.
ماذا عن الموت؟
إذا كان «قيصر» قد صُمّم بحجّة حماية المدنيين السوريين، فإنّ نتائجه العملية مثّلت عقاباً لهؤلاء المدنيين أنفسهم، عبر خنقهم معيشياً وخدمياً. وفي السياق، قد يسأل البعض: هل تسبّب هذا القانون بوفاة سوريين بشكل مباشر أو غير مباشر؟
الإجابة ليست سهلة، في ظلّ غياب دراسات ميدانية ترصد الأسباب المباشرة وغير المباشرة للوفيات بعد تطبيق القانون عام 2020. إلا أنّ المؤشرات الإحصائية تُظهر ارتفاعاً في معدّلات الوفيات، رغم انحسار مساحة المعارك والمواجهات العسكرية في المدّة نفسها. وإذ لا يمكن الجزم ما إذا كانت وفيات مرضى السرطان، مثلاً، ناجمة عن صعوبة تأمين أدوية ذات منشأ أوروبي أو لا، أو ما إذا كانت الوفيات القلبية المفاجئة مرتبطة بضغوط معيشية ونفسية متراكمة، فإنّ المؤكّد أنّ القانون «عذّب» الكثير من السوريين العاديين.
اليوم، ومع إلغاء قانون «قيصر»، تبدو الحاجة ملحّة إلى اعتماد مقاربة جديدة تنطلق من الاعتراف بأنّ العقوبات ليست مجرّد أداة ضغط، بل سياسة طويلة الأمد تترك ندوباً اقتصادية واجتماعية يصعب محوها. ومن ثمّ، فإنّ أي حديث جدّي عن «فرصة للتعافي» يجب أن يبدأ بخطة وطنية لتوثيق الخسائر، وإعادة بناء الثقة مع الشركاء الدوليين، وتحرير النشاط الاقتصادي من قبضة اقتصاد الظلّ والمحاسيب الذي نشأ في ظلّ العقوبات ومنظومة الفساد.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|