أين العسكريون والموظفون والمتقاعدون من حركة الأعياد ؟
كتب العميد الدكتور غازي محمود :
في الوقت الذي تتوالى فيه الاستعدادات للاحتفال بعيدي الميلاد ورأس السنة، ما تزال الحركة الاقتصادية التي تشهدها الأسواق اللبنانية خجولة، بفعل تراكمات الأزمة الاقتصادية وتداعياتها، فضلاً عن الأضرار الناجمة عن العدوان الإسرائيلي المتمادي، والتي لا تزال تُلقي بثقلها على مختلف مفاصل الاقتصاد. وخاصةً على المستهلكين لاسيما منهم العسكريين وموظفي القطاع العام والمتقاعدين من ناحية، وعلى القطاع التجاري والخدمات من ناحيةٍ ثانية، ما يحول دون عودة النشاط الاقتصادي الى المستوى الذي يُحقق النمو المستدام.
وقد انعكست هذه التراكمات بصورة ملموسة على القدرة الشرائية للمواطنين، الأمر الذي يدفع التجّار إلى ترجيح محدودية الزخم الذي قد تشهده الأسواق في ظلّ الواقع الاقتصادي المتأزّم الذي تمرّ به البلاد. ويزداد هذا الواقع تعقيدًا في ظلّ التحديات البنيوية والمزمنة التي يواجهها الاقتصاد اللبناني، وفي مقدّمها هشاشة استقرار سعر الصرف، واستمرار أزمة القطاع المصرفي، فضلًا عن الوضع الأمني غير المستقر، الذي يُسهم في كبح الاستثمارات، سواء الأجنبية أو المحلية.
في المقابل، تستمر الآمال بالتعافي الاقتصادي مدفوعة بقطاعي السياحة والاستهلاك، على الرغم من أن الناتج المحلي سجل في العام 2024 انكماشاً بنسبة %7.1، في ظل توقعات للبنك الدولي بنمو تبلغ نسبته 4.7%، بينما تقديرات بنك عودة ترفع هذه النسبة الى %5، ليكون اول نمو إيجابي منذ العام 2017.
تأتي هذه المؤشرات الايجابية في وقتٍ لم يتحقق أي من الإصلاحات الاقتصادية التي كان من المفترض أن تكون محركة لعجلة الاقتصاد الوطني وأن تشكّل عوامل مُحفزة للنمو. أما ما تحقق من تعديل لقانون السرية المصرفية وإقرار قانون معالجة أوضاع المصارف، يبقى غير قابل للتنفيذ حتى إقرار قانون الانتظام المالي. في المقابل، وحده القطاع السياحي شهد قفزة نوعية وانتعاشًا ملموسًا خلال فصل الصيف الماضي، متحديًا التهديدات بالحرب التي لم ينفك العدو الإسرائيلي عن التلويح بها.
وقد سجل عدد السياح في آب/أغسطس الماضي 397 ألفاً، في حين اقتصر عددهم في الوقت عينه من العام 2024 على 247 ألف سائح، أي ان نسبة الزيادة في عدد السياح بلغت 60%. ما يؤكد نجاح الموسم السياحي للعام 2025، رغم ما رافقه من مخاطر انعكاسات المواجهة الإسرائيلية- الإيرانية على لبنان، والتي حدت من إقبال مواطني دول الخليج على القدوم إلى لبنان.
وتُشكل حركة الوافدين عبر مطار رفيق الحريري الدولي التي سجلت خلال شهر تشرين الثاني وصول ما يزيد على 223 ألف وافد مؤشرًا مشجعًا، فيما ازداد عددهم بشكل ملحوظ خلال الأسبوع الأول من شهر كانون الأول حيث يتراوح من 8 آلاف الى 10 آلاف وافد يومياً. وهذه الأعداد من الوافدين مُرشحة للارتفاع، مع اقتراب موعد الأعياد وازدياد عدد رحلات شركات الطيران الى لبنان، اعتبارًا من الأسبوع الحالي لتبلغ ما يُقارب الـ 18 ألف وافد.
الامر الذي يؤكد أهمية القطاع السياحي بالنسبة إلى الاقتصاد وازدهاره، لما يؤمنه من ضخ للعملة الأجنبية في الاقتصاد اللبناني. خاصةً وأن لبنان بحاجة الى دخول العملات الصعبة إلى البلاد، في ظل المرحلة الصعبة التي يمر بها لبنان، من متطلبات إعادة الاعمار الى تمويل الأنشطة الاقتصادية المختلفة. فيما يبقى تأثير ازدهار القطاع السياحي على المواطن العادي محدوداً، لأن العائدات منه لا تصل إليه مباشرة، بل إلى المؤسسات السياحية من شركات الطيران والمنتجعات السياحية والمسابح والفنادق والمطاعم وشركات تأجير السيارات وغيرها.
وعلى الرغم من أن الشوارع عامةً، والأسواق خاصةً، عادت لتستقطب المواطنين والسياح، الذين منهم من يتجول للاستمتاع بالزينة ومظاهر الابتهاج بالعيد، ومنهم من يقصد المحلات للاستفادة من التخفيضات، رغم الظروف الصعبة. إلا أن الحركة التجارية تبقى خجولة في المحلات والمتاجر الكبرى، وإن ازدادت بشكل ملحوظ في المطاعم الفخمة والطلب على استئجار السيارات وحجوزات الفنادق من قبل المغتربين.
ذلك أنّ النموّ الاقتصادي المستدام لا يمكن أن يتحقق بالاعتماد على مواسم سياحية قصيرة وهشة، إذ إنّ مواسم الأعياد لا تتجاوز أيامًا معدودة، وكذلك هو حال موسم الصيف، فيما التهديدات الإسرائيلية تجعلها هشة وتحد من الاقبال عليها. وانطلاقًا من ذلك، تبرز الحاجة إلى بناء دورة اقتصادية متوازنة ومتكاملة تقوم على تعزيز القطاعات الإنتاجية والعمل على تكاملها، بحيث يأتي ازدهار النشاط السياحي عنصرًا مكمّلًا لبقية القطاعات الاقتصادية، لا بديلًا عنها أو ركيزةً وحيدة للنمو.
غير أنّ هذه الدورة الاقتصادية تظلّ منقوصة بفعل غياب دور ركنٍ أساسيٍّ من أركانها، يتمثّل في أصحاب الدخل المحدود وذوي المدخرات المتواضعة المودَعة في المصارف. إذ لا يزال المودعون محرومين من حقّهم في التصرّف بودائعهم، في ظلّ سياسات نقدية عاجزة عن تقديم حلول بنيوية للأزمة القائمة. وقد اقتصر ما صدر عن مصرف لبنان، على رفع سقوف السحوبات الشهرية مشروطة بإنفاق الزيادة عبر البطاقات المصرفية، وهو ما يعكس مقاربة ظرفية لا ترقى إلى مستوى المعالجة الشاملة للأزمة المالية والنقدية.
أمّا رواتب موظفي القطاع العام، من مدنيين وعسكريين، فضلًا عن المتقاعدين، فلا تبدو في وضعٍ أفضل من حال الودائع المصرفية المجمدة. فعلى الرغم من المطالبات المتكرّرة بتصحيح الرواتب، وما رافقها من تعهّدات رسمية، لم يتضمّن مشروع موازنة عام 2026 أي اعتمادات مخصّصة للزيادات التي كان من المفترض إقرارها خلال العام المقبل.
وفي المقابل، تبرز مفارقة لافتة تمثّلت في إقرار رواتب مرتفعة لأعضاء الهيئات الناظمة ورؤسائها، برواتب لا تمتّ بصلة إلى مستويات أجور العاملين في القطاع العام على اختلاف أسلاكهم وفئاتهم، الأمر الذي لا يعكس فقط خللًا بنيويًا في مقاربة الأجور، بل يدحض أيضًا الذريعة القائلة بعدم توافر التمويل اللازم لتصحيح رواتب القطاع العام.
وإذا كانت رواتب حاكم مصرف لبنان ونوابه قد شكّلت تاريخيًا استثناءً، بحيث فاقت منفردة رواتب الفئة الأولى في القطاع العام، فإنّ اللافت اليوم هو انتقال هذا المستوى المرتفع من الأجور إلى الهيئات الناظمة، بحيث باتت رواتبها تفوق بشكل ملحوظ رواتب نظرائها في الإدارات العامة الأخرى.
وفي حين يمكن تبرير رواتب حاكم المصرف المركزي ونوابه بكونهم يمثّلون السلطة النقدية المخوّلة وضع السياسات النقدية ومتابعة تنفيذها، فإنّ هذا المبرّر لا ينسحب على الهيئات الناظمة، التي يقتصر دورها على تقديم المشورة لوزير الوصاية، وهي مشورة ذات طابع غير ملزم. ويثير هذا التباين تساؤلات جدّية حول منطقية هذا التمييز وجدواه، في ظلّ أزمة مالية ونقدية شاملة تفرض معايير أكثر عدالة واتساقًا في مقاربة الأجور العامة.
إنّ استمرار الحكومة في تجاهل أحقية العسكريين وموظفي القطاع العام والمتقاعدين في تصحيح رواتبهم، لا في زيادتها فحسب، يُشكّل إخلالًا بأحد الشروط الأساسية للنهوض الاقتصادي، ولا سيّما فيما يتصل بضرورة توافر إدارة عامة فاعلة وقادرة على مواكبة متطلبات هذا النهوض. سيما وأن هذه الفئات تُعدّ المكوّن الرئيس للطبقة الوسطى، التي يشكّل استقرارها وقدرتها الشرائية ركيزةً لأي حركة اقتصادية متوازنة. ومن دون ضمان حقوقها، تتعذّر إمكانات التعافي الاقتصادي، ويغيب الأساس الضروري لتحقيق نموّ مستدام.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|