بيوت بيروت للسيّاح والأجانب فقط!
لا تتوقف الفوضى العمرانية في بيروت عن التوسع. يمكن ملاحظة ذلك بوضوح في المدة الأخيرة، في الأشرفية ومار مخايل، اللتين تشهدان أعمال تقسيم وتقطيع شقق إلى وحدات سكنية صغيرة، بهدف تحويلها إلى استديوهات وموتيلات وبيوت ضيافة و«أر بي أن بي»، لخدمة السياح والأجانب والعاملين في المنظمات الدولية. أما «السكان الأصليون»، ولا سيما من الجيل الثاني، فهم غير قادرين على دفع بدلات إيجار وخدمات السكن في مناطق باتت مصنّفة لـ«الطبقة الراقية».
السبب الرئيسي وراء ظاهرة تقسيم الشقق إلى اثنتين وثلاث وأحياناً أربع (بحسب مساحتها)، هو الـ«بزنس». لتوفير عناء البحث عن عائلة قادرة على استئجار شقة في الأشرفية مثلاً مقابل 1000 دولار، تُقسَّم الشقة إلى شقتين، إيجار الواحدة منهما 700 دولار، أو ثلاثة أقسام مقابل 500 دولار للقسم. ويجري أيضاً تأجير هذه المنازل الصغيرة لنزلاء مؤقتين، لبضعة أشهر أو أسابيع أو حتى أيام. وفي ظلّ ذلك، تُفتَح شركات وتدخل على الخط لتأمين «مكان رخيص للمبيت في وسط بيروت».
في 28 تشرين الأول الماضي، وصل إلى دائرة الهندسة في بلدية بيروت بلاغ «ضد أعمال تقطيع (في العقار 4190 في الأشرفية - قرب مستشفى الجعيتاوي)، تجري من دون ترخيص». ويوضح رئيس لجنة المبنى، فيليب زوان، لـ«الأخبار»، أنه «منذ شهرين، سمعنا أصوات تكسير لنعرف بعدها أن أحد المالكين الجدد لا ينوي السكن في شقته، بل تقسيمها إلى اثنتين وتأجيرها لأجانب». ولوقف هذه الأعمال، وقّع جميع سكان البناء عريضة «لما قاسيناه قبل عشر سنوات من آخر قسَّم شقته إلى اثنتين، ومرّ عليهما خليط من الجنسيات المختلفة: يمنية، ألمانية، طليان، حلبية. ولِما عانيناه من أمور غير أخلاقية كانت تحصل في الشقق، ولا سيما عندما تُؤجّر لأيام قليلة». وإعادة الكرَّة، بحسب زوان، «تعني استهلاكاً أكبر للموارد العامة، واستنزاف مجاري الصرف الصحي، ومياه الاستخدام، والمصعد ومواقف السيارات، عدا عن العوائق الناتجة من استحداث شقق جديدة».
في مقابل النادي الرياضي في المنارة، أيضاً، انفلش بناء من تسع شقق، إلى 30 شقة للسكن الطالبي، بعد تأجيره لمدة عشر سنوات لمتعهد تولى أعمال التقسيم وتأجير الشقق. وعندما انتهت مدة العقد، لم يجدد وبقيت الشقق على ما هي عليه، علماً أن هناك من يقول إن عدم تجديد العقد سببه استخدام البناء في أعمال غير أخلاقية.
في المقابل، تزداد، وفقاً لمصدر في بلدية بيروت، «الشكاوى التي تردنا من تحويل الأبنية السكينة في الأشرفية إلى موتيلات بعد تقسيم الشقق إلى مجموعة شقق، بصورة مخالفة لقانون البناء». ورغم أن البلدية «تُرسل القوى الأمنية لإيقاف الأعمال»، يتحدث زوان عن «حالات كثيرة لم تتحرك فيها القوى الأمنية، وإنما غطّت على المخالفات مقابل رشاوى، كما حصل في بناء يقع بين الجعيتاوي ومار مخايل، عندما قُسِّمت الشقة في الطبقة الأخيرة «الروف»، إلى أربع شقق، ولم تفلح شكاوى الجيران في وقف الأعمال، بعدما حصل الدرك على رشوة تبلغ 300 دولار من المستثمر، ولم يعودوا ثانيةً».
بين الأشرفية ومار مخايل
تشرح المتخصصة في علم الاجتماع، مارلين نصر، أن «في الأشرفية، باتت بدلات إيجار البيوت مرتفعة وتفوق القدرة الشرائية لأبناء المنطقة، لذا تُقسَّم الشقق إلى وحدات أصغر مؤلفة من غرفة أو غرفتين، لتتيح لهم البقاء في منطقتهم، على قاعدة: شقة أصغر وإيجار أقل». وتلفت نصر إلى أنه «نادراً ما تأخذ الشقق المقسمة في الأشرفية طابع الموتيلات التي تؤجر لأيام، إذ يغلب عليها الشقق المفروشة التي تؤجّر لشهر أو اثنين».
أما في مار مخايل، فالأسعار أقل، ولا علاقة لذلك بتصنيف المنطقة، وإنما بـ«عدم تفضيل المستأجر دفع بدلات عالية في أماكن يفترض أنها أحياء سكنية، لكنها غير صالحة للسكن، بسبب الضجيج الذي تحدثه الملاهي الليلية»، ما يؤدي إلى تفضيل نموذج «الموتيلات التي تؤجّر للسياح لأيام». وتضيف: «نحن في مار مخايل منزعجون بشدة من هذا الوضع، ونقاتل منذ ثلاث سنوات لتتحرك بلدية بيروت وتقفل الملاهي في الأحياء السكنية، لكنها بدلاً من ذلك تعطي رخصاً للبارات لتتمدد على الأرصفة».
تداعيات ومخاطر
بعيداً من البُعد القانوني، تحمل حالة الفوضى السكنية هذه في أكثر من مكان في العاصمة الكثير من المخاطر، وعلى مستويات عدة، عدا عن تسبّبها في نزاعات بين المالكين. إذ اعتاد «السكان الأصليون» بناء علاقات اجتماعية مع الجيران، أو أقله معرفة من يشاركهم السكن في البناء للشعور بالأمان، ثم وجدوا أنفسهم أمام واقع يشبه الـ«أوتيل»، نتيجة تغيير جيرانهم باستمرار، والسكن مع غرباء وأجانب، لا يعرفونهم. إضافةً إلى ذلك، فإن تحويل الشقق إلى شقق صغيرة، يستدعي عصابات الدعارة إليها. وهذا ليس تفصيلاً بسيطاً بالنسبة إلى شاغلي البناء من عائلات. واستمرار الوضع على ما هو عليه، وانتشار «ترند» تقسيم الشقق في العاصمة وتأجيرها مؤقتاً، «يؤثر في النسيج الاجتماعي، ويضرب مفهوم المجتمع الصغير، فالعلاقات الاجتماعية تبدأ من البناء ثم الحي، وتحتاج إلى وقت لتُبنى»، وفقاً لنصر.
عدا عن أن زيادة عدد الشقق في البناء، ولو سكنتها عائلات لبنانية بشكل دائم، يستنزف البنى التحتية والمساحات والخدمات المشتركة، ما يتسبب في نزاعات بين سكان البناء. ويتخوّف زوان من أن يؤدي ذلك إلى «انخفاض قيمة الشقة جراء أعمال التقسيم في البناء، مع فقدان المعايير، عدا عن تأثر الأسعار بتشويه سمعة البناء».
هذا كله يستدعي تحرك المسؤولين، ولا سيما بلدية بيروت، لوقف أعمال التقسيم، والحدّ من تشويه الأبنية والأثر السكاني والاجتماعي الخطير، وكذلك وزارة السياحة لضبط هذه الفوضى وملاحقة الشركات غير المرخصة، التي توجّه السياح إلى الأبنية السكنية، بدلاً من الفنادق والشقق المفروشة.
... والأبنية الأثرية متضررة أيضاً
بحسب المتخصصة في علم الاجتماع مارلين نصر، «تقع الأبنية القديمة التقليدية والتاريخية والمصنفة أثرية في المزرعة والمصيطبة وعين الرمانة ومناطق أخرى في العاصمة والتي تتميز بالحدائق التي تحيط بها وأشجار الحامض وبرك المياه، ضحية الفوضى العمرانية نفسها». فمع تراجع القدرة على الاستئجار بأسعار مرتفعة، تقسم هذه البيوت إلى مجموعة شقق، بشكل يؤثر في خصوصيتها. و«تدخل الشركات العقارية على الخط لشراء المنازل بالترغيب والترهيب، تمهيداً لهدمها وبناء الأبراج، فتفقد المدينة أصالتها، وتنتشر الأبراج بين الأبنية بصورة عشوائية تفقد أدنى معايير التنظيم المدني».
زينب حمود - الاخبار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|