تفريغ بلا انسحاب.. كيف أعاد حزب الله صياغة حضوره جنوب الليطاني؟
أعاد تصاعد الضغوط الدولية والإسرائيلية على لبنان، بعد تثبيت التهدئة الهشة على الجبهة الجنوبية، فتح ملف وجود حزب الله جنوب نهر الليطاني، وسط روايتين متوازيتين؛ الأولى رسمية تؤكد أن الدولة والجيش يفككان مواقع الحزب من دون عرقلة تُذكر، والثانية ميدانية تشير إلى أن الحزب لم ينسحب بالكامل، بل أعاد تكييف حضوره بما يتلاءم مع المرحلة.
مصادر أمنية وعسكرية لبنانية مطلعة تحدثت لـ"إرم نيوز" تؤكد أن الصورة الحالية أكثر تعقيدا من ثنائية "انسحاب أو بقاء"، وأن ما يجري هو تحول في طبيعة الوجود لا إنهاؤه.
الجيش واليونيفيل.. تنسيق وانتشار
مصادر عسكرية لبنانية توضح أن الجيش اللبناني يتعامل مع المنطقة وفق صلاحياته الكاملة، وبالتنسيق مع قوات "اليونيفيل"، من خلال توسيع الانتشار في نقاط حساسة، وتفتيش مواقع مشتبه بها، وإزالة منشآت أو تجهيزات عسكرية غير شرعية.
وتشدد المصادر على أن عمليات التفكيك لم تواجه اعتراضا مباشرا، لا لأن هناك تفاهمات سياسية، بل لأن الحزب سبق أن غيّر تموضعه ولم يعد يعتبر هذه النقاط جزءا من بنيته العملياتية.
أما "اليونيفيل"، فتؤدي دورا رقابيا وتوثيقيا، وتحرص - بحسب المصادر - على عدم تحويل أي احتكاك موضعي إلى أزمة سياسية أو أمنية، في ظل حساسية المرحلة.
هل ما زال للحزب وجود جنوب الليطاني؟
بحسب مصادر عسكرية، فإن حزب الله لم يعد يحتفظ بانتشار عسكري تقليدي أو علني جنوب الليطاني كما كان في مراحل سابقة، ولا توجد اليوم نقاط ثابتة أو مواقع مكشوفة تُدار باسمه بشكل مباشر.
لكن المصادر نفسها تشير إلى أن وجود حزب الله لم يختف كليا، بل بات يأخذ أشكالا مختلفة، أبرزها عناصر محدودة غير ظاهرة، تتحرك بلباس مدني أو ضمن النسيج المحلي، وشبكات مراقبة غير مسلحة ظاهريا، مهمتها الرصد ونقل المعلومات. وبنى لوجستية قديمة جرى تعطيلها أو إفراغها جزئيا، من دون تفجير أو إعلان.
وتشدد المصادر على أن الحديث هنا لا يتعلق بوحدات قتالية أو تشكيلات هجومية، بل بحضور منخفض الكثافة يهدف إلى عدم فقدان السيطرة المعرفية بالميدان.
السلاح.. ماذا أُخرج وماذا تبقى؟
تؤكد المصادر الأمنية والعسكرية اللبنانية لـ"إرم نيوز" أن السلاح الثقيل والمتوسط التابع لحزب الله لم يعد موجودا جنوب نهر الليطاني منذ فترة، سواء قبل تثبيت التهدئة الأخيرة أو بعدها، مشيرة إلى أن المنطقة خالية حاليا من أي منصات إطلاق صواريخ، راجمات، أسلحة مضادة للدروع، أو مخازن ذخيرة عملياتية يمكن استخدامها في مواجهة مباشرة مع إسرائيل.
وبحسب المصادر، فإن ما جرى إخراجه أو نقله شمالا شمل منصات إطلاق وصواريخ ميدانية قصيرة ومتوسطة المدى، أسلحة مضادة للدبابات كانت تُخزّن في مواقع قريبة من القرى الحدودية، وتجهيزات اتصالات عسكرية مرتبطة بغرف عمليات ميدانية.
في المقابل، تشير التقديرات الأمنية إلى احتمال بقاء أسلحة فردية خفيفة فقط في بعض القرى، من نوع بنادق خفيفة (كلاشنيكوف ومشتقاتها)، مسدسات شخصية، تجهيزات اتصال بسيطة، وهي أسلحة تقول المصادر إنها غير مخصصة لعمل قتالي منظم، ولا تُعد خرقا جوهريا لمعادلة وقف النار طالما لم تُستخدم أو تُعرض علنا.
أما في ما يخص المستودعات، فتؤكد مصادر ميدانية أن الجيش اللبناني فكك أو دخل خلال الأشهر الماضية مواقع كانت تُستخدم سابقا للتخزين أو الإيواء المؤقت، ليتبين أن معظمها أُفرغ مسبقا أو تعطل وظيفيا، من دون العثور على كميات سلاح فعالة. وتشدد المصادر على أن لا مؤشرات حاليا على وجود مخازن سرية نشطة جنوب الليطاني، لا فوق الأرض ولا في الأنفاق، خلافا لما كان سائدا في مراحل سابقة.
وتلفت المصادر إلى أن حزب الله غيّر عقيدته الميدانية في الجنوب، بحيث لم يعد يعتمد على تخزين السلاح داخل نطاق القرى الحدودية، بل على إخراج كامل القدرات القتالية إلى شمال الليطاني، مع الإبقاء فقط على أدوات "حضور رمزي - أمني" لا ترقى إلى مستوى بنية عسكرية.
وتخلص المصادر إلى أن الضغط الإسرائيلي والدولي الحالي يتركز حصرا على منع عودة السلاح النوعي والثقيل إلى الجنوب، أكثر من ملاحقة أي وجود فردي محدود، وهو ما يفسر استمرار عمليات الجيش اللبناني من دون احتكاك، واستمرار التهدئة رغم الشكوك المتبادلة.
كيف يموّه الحزب وجوده؟
تشير مصادر متابعة إلى أن حزب الله يعتمد حاليا نموذج "الحضور غير القابل للإثبات" جنوب الليطاني، عبر الفصل الكامل بين المدني والعسكري، وتجنّب أي مظاهر تنظيمية أو رمزية، والاعتماد على البيئة المحلية في الرصد غير المباشر، ونقل أي نشاط لوجستي حقيقي إلى شمال الليطاني.
هذا النموذج، وفق المصادر، يجعل من الصعب على إسرائيل أو المراقبين الدوليين إثبات خرق يبرر تصعيدا واسعا، وفي الوقت نفسه يمنح الحزب شعورا بأنه لم ينسحب نفسيا أو استخباريا من المنطقة.
مصادر قريبة من بيئة الحزب تقول إن البقاء جنوب الليطاني – ولو بهذا الشكل المحدود – يحقق عدة أهداف، أهمها عدم ترك الجنوب للفراغ الكامل، كي لا يُقرأ كخسارة معنوية، والحفاظ على القدرة على إعادة الانتشار السريع إذا انهارت التهدئة، ومنع فرض واقع أمني جديد طويل الأمد على الحدود.
لكن المصادر نفسها تؤكد أن الحزب لا يريد اختبار الخطوط الحمراء الإسرائيلية حاليا، ولا يرى مصلحة في استعادة أي وجود عسكري تقليدي جنوب الليطاني في هذه المرحلة.
التقييم الإسرائيلي.. قبول مع بقاء هامش الضرب
تشير مصادر سياسية مطلعة على النقاشات الإسرائيلية - الأمريكية إلى أن تل أبيب تقيم الوضع الحالي جنوب الليطاني على أنه "تحسن جزئي" لا يرقى إلى تغيير استراتيجي، لكنها ترى في غياب السلاح الثقيل والبنية القتالية العلنية مكسبا مرحليا يبرر عدم الانزلاق إلى مواجهة واسعة في هذه المرحلة.
وبحسب المصادر، فإن الأجهزة الإسرائيلية تميز بين السلاح النوعي والقدرات الهجومية (التي تعتبرها خطا أحمر وقد أُخرجت من الجنوب)، وبين الوجود الفردي أو الرمزي لعناصر الحزب، الذي تصفه تل أبيب بأنه "غير حاسم عسكريا" طالما بقي دون بنية أو قيادة ميدانية أو وسائل إطلاق.
وتؤكد المصادر أن إسرائيل لا تعتبر الجنوب خاليا بالكامل، لكنها ترى أن ما تبقى حاليا لا يوفر لحزب الله قدرة على فتح جبهة فورية، وهو ما يفسر تركيزها على الضربات الاستباقية المحدودة أو العمليات الاستخبارية، بدلا من العودة إلى نمط الحرب المفتوحة.
في المقابل، تحذر المصادر من أن إعادة إدخال أي سلاح نوعي أو رصد نشاط يُفهم على أنه إعادة بناء بنية قتالية جنوب الليطاني، سيُقابل برد عسكري مباشر، بغض النظر عن المسار الدبلوماسي أو دور الجيش اللبناني و"اليونيفيل"، وهو ما يجعل التهدئة الحالية مشروطة ومؤقتة من المنظور الإسرائيلي.
وتخلص مصادر "إرم نيوز" إلى أن جنوب الليطاني يعيش مرحلة "تفريغ عسكري مع بقاء رمزي - استخباري"، فمن جهة توسع الدولة حضورها الرسمي، ويفكك الجيش ما يظهر من بنى غير شرعية، ومن جهة أخرى يعيد حزب الله صياغة وجوده بأدوات أقل كلفة وأكثر تمويهًا.
وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، يبدو هذا النموذج حلا مؤقتا يضبط الانفجار ولا يعالج جذور الأزمة، بانتظار ما ستفرضه التطورات الإقليمية والداخلية في المرحلة المقبلة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|