الميكانيزم المدني.. هل أصبح التفاوض غير المباشر الرهان الأخير لنبيه بري؟
في خضم الحركة الدبلوماسية الكثيفة على الخط اللبناني، والتي تمثلت بزيارات متزامنة وضاغطة لموفدين بارزين، بدءاً بالمبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس ومدير المخابرات المصرية اللواء حسن محمود رشاد، مروراً بالأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، وصولاً إلى الحديث عن زيارة مرتقبة قد تكون ختامية للموفد الأمريكي توم براك، كان سبقها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري بإطلاق موقف حاسم حول الشروط التفاوضية، جاء بعد زيارته لقصر بعبدا وتنسيقه للموقف مع الرؤساء الثلاثة، حدد فيه الشروط التفاوضية مسبقاً قبل وصول الموفدين “لا للتفاوض المباشر مع إسرائيل، و”الميكانيزم” هو الإطار الوحيد المقبول للتفاوض غير المباشر”.
هذا الموقف الموحد، الذي بادر إليه بري وتوافق عليه مع الرؤساء، كشف عن ضيق الهامش المتاح للمبادرة التي يقودها. لاحقاً، وخلال لقائه البارحة مع المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، طرحت الأخيرة خيارين إما التفاوض المباشر المرفوض من الجانب اللبناني، أو التفاوض غير المباشر عبر “الميكانيزم” الذي سبق أن طرحه بري، لكنها أضافت اقتراحاً بتوسيعه ليشمل مدنيين.إن التمسك بـ”الميكانيزم” والرفض القاطع لاقتراح المدنيين، لا يعكس سيطرة على زمام المبادرة بقدر ما يعكس محاولة أخيرة للتشبث بأضعف خيار متاح للحماية من الانزلاق، خصوصاً بعد التغيرات الجذرية في موازين القوى التي فرضتها التطورات الأخيرة.
سقوط نموذج “التسوية بالردع”
على خلاف ما جرى في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية حول حقل كاريش، فإن المرحلة الحالية من التفاوض تجري في ظروف مختلفة جذريًا، سواء من حيث السياق السياسي أو موازين القوة. بالتذكير بما حصل خلال مفاوضات ترسيم الحدود البحرية (حقل كاريش)، نجد أن تلك العملية تمت في ظل ظروف مغايرة تماماً. في ذلك الوقت، كان القرار اللبناني، وإن كان مثيراً للجدل إجرائياً،كون الاتفاق وقعه الرئيس السابق ميشال عون قبل أيام من انتهاء ولايته، ولم يمرر أمام مجلس النواب، إلا أنه كان مدعوماً وقتها بقوة ضاغطة معينة. اليوم، وبعد الأحداث الدراماتيكية التي طالت الساحة اللبنانية، بما في ذلك اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وعدد من قياداته العسكرية التاريخية، أصبح نموذج “التسوية بالردع” غير قابل للتطبيق. لقد أدت هذه الأحداث إلى إضعاف الموقف الذي يمثله بري بشكل ملحوظ، مما أسقط فعلياً العامل الذي كان يمنح الأطراف المعنية مساحة للمساومة.
في ظل هذا الواقع الجديد، أصبح بري، كناقل للموقف الرسمي وهو بالفعل لموقف “المحور”، محصوراً بين ضغط أمريكي متزايد يهدف لمنع التصعيد، وبين ضعف القوة الذاتية. لم يعد هناك أي مجال للمناورة أو البحث عن بدائل، فالأفكار التي كان يبتدعها الرئيس بري ويطلق عليها “أرانب” يبدو أن جعبتها فرغت، ما جعل قرار “عين التينة” ملزماً على القبول بالحل المضيق بالإطار التقني العسكري الوحيد المتاح ….”الميكانيزم”. التمسك برفض إضافة المدنيين ليس نابعاً من تفوق تفاوضي، بل هو الخطوة الوحيدة الباقية لتثبيت سقف التفاوض ومنع تسييس الآلية الأمنية، وهي محاولة يائسة لحماية حدود الموقف المكلَّف بتبليغه من انزلاق أكبر قد يُفرض عليه بالقوة.
“الميكانيزم” كـ “سد اخير”
باتت “الميكانيزم” تشكل بالنسبة للموقف اللبناني الحالي السد الأخير لحماية المرجعية السياسية التي ينتمي إليها بري من تقديم تنازلات مجانية. فالإبقاء على اللجنة في طابعها العسكري التقني يخدم هدفين حاسمين في مرحلة ضعف القوة التفاوضية …
الهدف الأول هو منع التطبيع تحت الضغط، فالمتفاوضون يدركون أن التفاوض عبر العسكريين هو ضرورة أمنية لا تعني تطبيعاً سياسياً، كما أثبتت تجارب دول أخرى، لكن السماح بانضمام المدنيين، سواء دبلوماسيين أو حكوميين ، يعني الانزلاق مباشرة إلى مفهوم “التطبيع غير المباشر”، حيث يتم شرعنة التواصل الرسمي على مستوى بيروت، وهذا يُعد الثمن السياسي الذي تسعى واشنطن لانتزاعه من الأطراف المعنية في ظل الظروف المستجدة. والهدف الثاني هو تجميد التسييس. فإبقاء المفاوضات محصورة بالضباط العسكريين يمنع فتح ملفات سياسية أعمق ويحصر الحوار في إطار الخروقات، وهذا هو أقصى ما يمكن تحقيقه للحفاظ على الحد الأدنى من وحدة القرار في هذه المرحلة. خلاصة القول، فإن إعلان بري والتمسك بـ”الميكانيزم” هو اعتراف بأن الخيارات قد استنفدت، وأن الهامش المتاح لا يسمح بغير إدارة الأزمة عبر الإطار الأقل سياسية والأكثر حيادية، في محاولة للحؤول دون تقديم تنازلات تطبيعية في مرحلة ضعف غير مسبوقة.
كلادس صعب - صوت بيروت انترناشونال
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|