إقتصاد

الجرائم المالية ومخاطرها على الاقتصادات الوطنية

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كتب العميد الدكتور غازي محمود : 

عشية انعقاد قمة مكافحة الجرائم المالية برعاية وزير الداخلية يوم الأربعاء الموافق 15 تشرين الأول في مركز التدريب والمؤتمرات لطيران الشرق الأوسط في بيروت، لا بد من تسليط الضوء على هذا النوع من الجرائم وإظهار ما تُسببه من عرقلة واخفاقات للأنشطة الاقتصادية، وما تُشكله من تهديد لاستقرار الاقتصادات الوطنية والحؤول دون نموها وتطورها. 

سيما وأن العالم شهد خلال العقود الأخيرة تصاعداً في حجم وتنوع الجرائم المالية نتيجة العولمة وتراجع القيود والسياسات الحمائية للاقتصادات الوطنية، وتنامي التدفقات المالية العابرة للحدود بالإضافة الى تطور الوسائل التكنولوجية التي شملت التحويلات وغيرها من العمليات المالية. وقد تطورت وتعقدت هذه الجرائم حتى تعدت كونها ظاهرة مالية محضة يسعى القائمون بها الى الكسب غير الشرعي، بل أصبحت قضية تمسّ الأمن الاقتصادي للدول واستقرارها السياسي والاجتماعي.

والجرائم المالية بحسب تعريف الأمم المتحدة هي: "أي سلوك غير مشروع يُرتكب بقصد الحصول على منفعة مالية أو تجنّب التزام مالي باستخدام وسائل احتيالية أو ملتوية." ويشمل هذا التعريف مجموعة واسعة من الممارسات التي تتراوح بين الاحتيال، والاختلاس، والتهرب الضريبي، والفساد الإداري، والتلاعب في الأسواق المالية، ويُشكل تبييض الأموال محورها الاساسي. 

إنّ ضعف الشفافية، وتراجع الرقابة المؤسساتية، وتداخل المال بالسلطة، تشكّل بيئة خصبة لازدهار هذه الجرائم، والتي تُعدّ من أبرز التحديات البنيوية التي تواجه الاقتصادات الوطنية المعاصرة، لما تُحدثه من اضطراب في الأسواق، وتآكل للثقة في المؤسسات، وتراجع في معدلات النمو. 

أنواع الجرائم المالية 
الاحتيال المالي (Financial fraud): ويهدف الى تحقيق مكاسب مالية غير مشروعة بكافة الأساليب الاحتيالية، مثل التلاعب بالبيانات المحاسبية أو إصدار أوراق مالية مزيفة أو الاحتيال الإلكتروني ومخططات بونزي (Ponzi scheme). 

الاختلاس (Embezzlement): يتمثل في استحواذ أفراد على أموالٍ مؤتمنين عليها بحكم مسؤولياتهم الوظيفية، ويكثر في المؤسسات العامة والمصرفية، مما يتسبب بخسائر مالية مباشرة وخسائر معنوية تؤدي إلى انهيار الثقة بالمؤسسات. وترتبط جرائم اختلاس المال العام بالفساد الإداري. 

التهرب الضريبي والجمركي (Tax and Customs Evasion): يهدف المكلف من خلاله التخلص كلياً أو جزئياً من تأدية الضرائب أو الرسوم المستحقة عليه، وذلك عبر تخفيض الدخل المعلن أو اختلاق مصاريف وهمية، ممارسة الغش والتزوير في القيود وفواتير الشحن، ومخالفة القوانين والأنظمة الضريبية المعتمدة. 

الرشوة (Bribery): يسعى ذوو المصلحة من خلال الرشوة الى الحصول على مزايا غير مستحقة، مثل تسريع انجاز معاملات، تمرير صفقات أو عقود، وتنفيذ اعمال غير قانونية. وتؤدي الرشوة إلى التمييز بين المواطنين وجعل المنافسة غير متكافئة، وتستنزف الاقتصاد الوطني. 

تبييض أو غسل الأموال (Laundering): هو كل فعل يقصد به تمويه أو اخفاء مصدر الأموال أو المداخيل الناتجة بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن ارتكاب احدى الجرائم المالية المُشار اليها اعلاه أو غيرها من الجرائم وتحويلها إلى أصول قانونية المظهر، عبر مراحل ثلاث: الإيداع، والتمويه، والدمج في الاقتصاد النظامي. 
المخاطر الاقتصادية للجرائم المالية

يُشكل استنزاف الإيرادات العامة أحد اهم مخاطر الجرائم المالية، لا سيما منها جرائم التهرب الضريبي، ومن الرسوم الجمركية، والرشوة، والاختلاس، والفساد. مما يحرم الدولة من إيرادات مستحقة ويُضعف قدرتها على تمويل الخدمات العامة، ويزيد العجز في الموازنات العامة، مما يدفع الحكومات إلى الاقتراض.

وتُقوّض الجرائم المالية الثقة في النظام المالي، وخاصةً ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، ما يؤدي إلى تراجع تدفقات الاستثمار، وارتفاع تكاليف الاقتراض، وانخفاض التصنيف الائتماني للدولة. الامر الذي يؤدي الى تشويه بيئة الاستثمار ويضعف القدرة التنافسية للإنتاج الوطني.

وتُشير تقارير كل من صندوق النقد الدولي ومجموعة العمل المالي (FATF)، أنّ حجم الأموال المغسولة سنوياً يقدَّر بما بين 2 إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ما يعادل تريليونات الدولارات سنوياً، وهي أرقام كفيلة ليس بإحداث خللٍ هيكلي في الاقتصادات الهشّة والنامية وحسب، بل تهدد الاقتصادات المتطورة. 

تهديد للأمن القومي والأعراف الاجتماعية
لا تقتصر مخاطر الجرائم المالية على الناحية الاقتصادية، بل تتخطاها لتهدد الأمن الوطني ولتُشكل أداة تقويضٍ للسيادة والاستقرار الداخلي. خاصةً إذا ما استُخدمت أموالها غير المشروعة في تمويل أنشطة إرهابية أو سياسية موازية. كما تطال مخاطر الجرائم المالية الأعراف الاجتماعية من خلال خلقها ثقافةً موازية تقوم على تبرير الربح غير المشروع وتشجيع الإفلات من العقاب.

سياسات المواجهة والوقاية
وتتلخص سبل مواجهة الجرائم المالية بتحديث التشريعات الوطنية والادوات التكنولوجية لتواكب الجرائم الرقمية الحديثة مثل العملات المشفرة والأنشطة المصرفية غير العادية وغسل الأموال عبر الأصول الرقمية. والتعاون بين الدول وتبادل المعلومات فيما بينها بشأن العمليات المشبوهة وتجميد الأصول المهربة.

وتتطلب مواجهة الجرائم المالية تعزيز الشفافية والرقابة المؤسساتية عن طريق إنشاء هيئات مستقلة لمكافحة الفساد وتحديث آليات التدقيق والمحاسبة، بالإضافة الى تعزيز الثقافة المالية للمواطنين بإدماج مفاهيم الشفافية والمساءلة في المناهج التعليمية، لبناء وعيٍ جماعيٍ مقاومٍ للفساد.

لبنان وجريمة العصر المالية
الجرائم المالية مشكلة متطورة باستمرار تهدد التنمية المستدامة للأعمال والمجتمعات على الصعيد العالمي، وتشكل تهديداً وجودياً للاقتصادات الوطنية، لأنها تُضعف دعائم الاستقرار المالي وتُقوّض ثقة المستثمرين بالدولة. إنّ مكافحتها ليست مهمة قانونية فحسب، بل هي مشروع وطني شامل يستدعي تكاملاً بين السياسة والاقتصاد والمجتمع المدني. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال حوكمة رشيدة، وعدالة قضائية مستقلة، وتحويل الأنظمة المالية الى عمليات رقمية تضمن التتبع والشفافية في كل حركة مالية.

في المقابل، من المفارقات أن الجرائم المالية في دول العالم يقوم بها أفراد أو مجموعة محدودة من الأشخاص يتشاركون اعمالاً معينة، أما في لبنان فإن الجرائم المالية تمت على مستوى الدولة التي يٌفترض فيها أن تحول دون حصول هذه الجرائم وملاحقة مرتكبيها. 

وقد ارتكبت الطبقة السياسية اللبنانية بالتكافل والتضامن مع كل من وزارة المالية ومصرف لبنان والقطاع المصرفي مجتمعين جرائم مالية بحق اللبنانيين، حيث استخدموا مخططات بونزي (Ponzi scheme) لاستقطاب ودائع جديدة دفعوا من خلالها فوائد مرتفعة، وهدروا مدخرات اللبنانيين لتمويل الانفاق العام ودعم الاستيراد الاستهلاكي. الامر الذي تسبب بأزمة مالية واقتصادية غير مسبوقة بتاريخ لبنان، فيما يبقى المسؤولون عن هذا الانهيار فوق المساءلة والمحاسبة. 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا